قراءة في فكر الشيخ الأوحد ( 1- 2 ) … للعلامة السيد محمد رضا السلمان

قراءة في فكر الشيخ الأوحد ( 1- 2 )

العلامة السيد محمد رضا السلمان

[ خلال مؤتمر الشيخ الأوحد أعلى الله مقامه الأول ( سيرة وعطاء ) في عام 1432هـ ]

 

بسم الله الرحمن الرحيم

ثم الصلاة والسلام على حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه الأوفياء المخلصين

إنه لشرف عظيم وثقة كبرى أن يتشرف هذا العبدالمقصر في أن يقترب من حياض مدرسة لها من الأصالة ما لا زيادة عليه ، ومن التفريع سعة ما لا يستدرك عليه ، وإذا كانت الأيام تقبل بعد إدبار فقد كان لإقبالها في هذه الدورة من اللطف ما كان رسول كرامة ووسام شرف ، لأجل ذلك وجدت نفسي مقبلة بكلها في سبيل أن يكون لها التوجه التام للهدف السامي والغاية العظمى ، وقد كنت وما زلت أجد نفسي أقصر باعاً من أن تكون محلاً لهذا اللطف الخفي ، اللهم إلا أن يكون من باب النعمة التي تكون محلاً لأكثر من اتجاه على رأسها مستوجبات الشكر .

الحديث عن العلم والعلماء حديث له من العمق والأصالة الشيء الكثير ، لذلك جاءت النصوص القرآنية مؤصلة في أكثر من موطن .

يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة العلق مبيناً ما للعلم من أهمية حيث يضيف صفة المعلم لنفسه المقدسة ( علم الإنسان ما لم يعلم )( [1] ) ، وفي الآية الحادية عشرة من سورة المجادلة يعطي الحق سبحانه وتعالى مقام الرفعة لأهل العلم وطلابه، ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات )( [2] ) ، وفي النص الثالث يبرز لنا القرآن الكريم ما للعلم من أهمية في بناء الفكر والمعرفة، ( تلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون )( [3] ) ، وفي هذا النص الذي بين أيدينا يأخذنا الخطاب القرآني إلى مساحة الرغبة الجادة في درب المقامات العلى ، ( هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً )( [4] ) ، هذه النصوص التي استعرض الأوحد مداليلها ، يعطينا انطباعاً واضحاً عن المساحة التي يشغلها الخطاب القرآني في روحه الطاهرة ، لذلك تماشى مع هديها واستضاء بنورها ، مما ولد إشراقاً خاصاً ملأ جميع جوارحه وجوانحه ، مما صيره علماً يهتدى بنمير عطاءه الأقدس ، ولا غرابة في شيء من ذلك أبداً ، حيث إن الله تعالى هو الداعي والعبد هو المدعو هنا ، ومتى ما لبى العبد دعوة ربه بات محلاً لفيضه اللامتناهي ، وهذا ما نلمسه من إشراقاته المباركة من خلال معالم مدرسته الخاصة والمشفرة بلمسة سحره النورانية .

كما أن الشريعة المقدسة ممثلة في مدرسة الحديث الشريف عنهم عليهم السلام قد أولت هذا الجانب جل اهتماماتها ، والمتصفح ناهيك عن المتتبع يجد كماً هائلاً يصب في هذا الاتجاه ومن باب الشاهد ليس إلا مع ملازمة التبرك بنورانية النص أذكر طرفاً منها ، حيث إن الأوحد بنى مدرسته على روح النص الشرعي الشريف الصادر عنه ، كان لنظرته الدقيقة والموجهة صوب الهدف أثرها الفاعل وما تكاد تضع يدك على نص من النصوص الموظفة صوب الهدف السامي إلا وتجد نفسك أمام حاسة خاصة زادتها حساسية نفسية ذابت في مفردات النص عبوراً صوب المعنى المضمن من ذلك .

 قال الإمام الصادق عليه السلام : ( حديث تدريه خير من ألف حديث ترويه ولا يكون الرجل منكم فقيهاً حتى يعرف معاريض كلامنا وأن الكلمة من كلامنا لتنصرف على سبعين وجها لنا من جميعها المخرج )( [5] ) ، ومثله ما يروى عن الإمام أبي الحسن عليه السلام : ( أنه كتب في رسالة ولا تقل لما بلغك عنا أو نسب إلينا هذا باطل ، وإن كنت تعرف خلافه ، فإنك لا تدري لم قلنا وعلى أي وجه وصفه )( [6] ) ، وأختم المطاف هنا بالحديث الثالث الذي يضع النقاط على الحروف بشكل واضح ، عن سفيان السمط قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام : ( جعلت فداك إن الرجل ليأتينا من قبلك فيخبرنا عنك بالعظيم من الأمر فيضيق بذلك صدورنا حتى نكذبه ، فقال عليه السلام ، أليس عني يحدثكم؟ قال قلت بلى ، قال عليه السلام: فيقول لليل أنه نهار وللنهار أنه ليل؟ قال قلت لا ، قال عليه السلام رده إلينا فإنك إن كذبت فإنما تكذبنا )( [7] ) ، إلى غير ذلك من الأحاديث النورانية الموقوفة حصراً على مدرستهم عليهم السلام مما كان له بالغ الأثر على صبغ مدرسة أوحدنا العظيم بلون البناء المحمدي الثابت .

وحيث إن الإسلام هو الرسالة الخاتمة، وحيث إنه قد تكفل بتبيان كل شيء ، وقد أعطى مساحة التزاحم والتفاضل حاجتها ، يتضح ذلك مما أعدته ووعدت به من آثار دنيوية وأخروية، متمثلاً في أبواب السماء وأبواب الرسالة ، وأبواب الإمامة وأبواب العلماء ، ونحن في هذه العجالة سوف ندلف إلى أطراف حياض واحد من كوكبة العلماء البارزين على أكثر من صعيد علمي وأدبي واجتماعي وسلوكي ، ولعلي ألمح تارة وأستعرض مرة أخرى وأستفرغ ثالثاً علني أجد ضالتي التي أنشدها ، حيث إن المفردات التامة بينها من حالة التزاحم ما يحتاج إلى آلية خاصة، على أساس منها يمكن أن يتسنى للباحث أن يصل إلى ما يصبوا إليه ، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على حالة الإبداع في مدرسته قد سره، إذ قلما تجد عالماً واحداً تكون له القدرة على العطاء في أكثر من غرض وباب من أبواب العلم والمعرفة ، وهذه المساحة بين أيدينا في عهدها المتقضي يقدمها لنا أرباب النصوص التأريخية تكاد تطبق إلا ما ندر على جهة واحدة ، تكون مصب النظر عندما يتم استعراض واحدة من تلك الشخصيات المترجمة .

لكن شيخنا الأوحد الأحسائي قدس سره يأبى إلا أن يكون من ذلك النادر، الذي يستوجب التوقف عنده وإعطاءه الشيء الكثير من العناية والمتابعة ، وإن كان المتنبي الشاعر قد أشغل الدنيا بأدبه الراقي وحكمته المستشرفة من الواقع من حوله ، حيث يقول:

 أعز مكان في الدنى سرج سابح

 

وخير جليس في الزمان كتاب

 

وإذا كان الشيخ الرئيس لا يزال يطرق أسماع الدنيا في عالمها المعرفي من خلال ما خلفه وراءه من نتاج علمي خضعت له رقاب أرباب المعرفة وهو القائل في إشاراته كما في الجزء الأول الصفحة 469 : ( فلا تلتفت إلى من يقول إنه يستعمل المبرهن إلا الضروريات والممكنات الأكثرية دون غيرها ) وإذا كان الإمام أحمد الفراهيدي لا يزال يشغل الدنيا بدوائره وبحوره مما فيه التماس العذر لمن يستحقه كما في قوله:

لو كنت تعلم ما أقول عذرتني
لكن جهلت مقالتي فعذلتني

 

أو كنت أعلم ما تقول عذلتك
وعلمت أنك جاهل فعذرتك

 

وإذا كان المفيد يطل علينا من جامعيته المتفردة عقلاً ونقلاً فيما يعبر المسافات ويتجاوز الحدود كما في لمساته الدقيقة على المشرب العقدي ودونك تصحيحه للاعتقاد على من سبقه ، وكذلك شيخ الطائفة في جامعته الكبرى ذات الأغراض المتعددة فقهاً وأصولاً وتفسيراً وما إلى ذلك، كانت لمدرسته الحديثية دورها البارز على ميراثه ، إلى مجموعة من الأسماء الدالة على ذواتها المقدسة قديماً وحديثاً ، فإن الأوحد الأحسائي قدس سره قد اختصر المسافة وقرب الحدود وفتح الأبواب على مساحة فكر واسعة كانت وما زالت تستحثنا تتطلب منا الدخول فيها من أبواب شتى ، حيث فيها تتزاحم صور التنقيح العلمي وتلوح علائم الإبداع الفكري ، وترتسم معالم الأدب الرفيع، وكم كنت أتمنى على كل من يمسك قلماً باحثاً أو أدباً مشخصاً أن يتعرض ما أمكن من جوانب مضيئة في عالم أوحدنا العظيم ، لا لأن الأوحد يحتاج لذلك بل لأننا في مسيس الحاجة إليه فيما قدم من عطاء ، رسم حضوره رغم صعوبة المرحلة وحرجية الموقف .

 وحيث إن الأمر يتطلب منا الكثير الكثير من الجهد والتسلح بالصبر والأناة ولزوم البحث والمتابعة فإني أستغلها فرصة سانحة أن أقف أمامكم بهذه المناسبة الكريمة واللفتة العظيمة من لدن القائمين على هذا المؤتمر الموفق وفي مقدمتهم سماحة الميرزا عبدالله صاحب المبادرة، والتي هي رائدة في بابها فيما يرجع إلى دراسة فكر الأوحد ، لعلي أستطيع أن أنوه على بعض نقاط هي موضع استقطاب فيما خلف وراءه من ثراء علمي واسع ، على نحو الإثارة ليس إلا ، فإن للتحقيق مقاماً آخر، فدونك ما حبرته يراعته المباركة من آراء علمية فلسفية بات لها من فرض الواقع ما لا يستطيع إنكاره إلا مكابر تنحى عن مواطن الإنصاف العلمي .

 من هنا نجد شيخنا وهو يتتبع كلام صدر المتألهين بكل دقة وأمانة وحرفنة مقطعاً بمقطع بل كلمة بكلمة مع حالة من الاستحضار المنقطع النظير لما تم عرضه ونقده وتقويمه مع حالة من الثقة بالنفس عالية دون قوله في هذا المقطع: قوله: ( وكل ماهية غير الوجود فهي بالوجود موجودة ) ويقول شيخ المتألهين فيه: ( إن الماهية إذا كانت عين الوجود كما سمعت من كلام داماده وأنها أشياء غير مجعولة بالذات فما معنى كونها موجودة بالوجود إذا لم تكن شيئاً ثم كانت شيئاً ) ، ويلفت النظر بعد ذلك إلى ما سبق منه من بيان ضافٍ في محله ليضيف إليه( إذا رجعت إلى فطرتك وفهمك قطعت نظرك عن كل ما قالوا وجدت بالبديهة أن معنى كون الشيء موجوداً أنه ( هست ) ومعنى أوجده الله سبحانه وتعالى يعني خلقه وأحدثه، فلم يكن قبل ذلك شيئاً كما قال سبحانه في الآية الشريفة: ( أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً )( [8] ) يعني اخترعه )( [9] ) .

 ومن خلال هذه الوقفة أجد من الجميل أن ألتمس من أولئك الذي استعرضوا مدرسة الشيخ من خلال نقولات لم تكن من الدقة بحيث تشكل مرآة صافية لما كان عليه ، وإذا ما أراد الواحد منا إنصافاً في قضية فما عليه إلا أن يقف على مصدرها الأساسي لأن الحقيقة تكمن في ذلك ، واليوم بحمد الله تعالى آثار الشيخ الأوحد ما عادت سراً من الأسرار المخفية بل هي أقرب إلى من يريد الحقيقة من مدة يد ، والله المستعان .

 



 ( [1]) سورة العلق ، آية 5 .

 ( [2]) سورة المجادلة ، آية 11 .

 ( [3]) سورة العنكبوت ، آية 34 .

 ( [4]) سورة الكهف ، آية 66 .

 ( [5]) معاني الأخبار صفحة بحار الأنوار : ج 2 ، ص 184 .

 ( [6]) بصائر الدرجات : ص 538 ، بحار الأنوار : ج2 ص 86 .

 ( [7]) بحار الأنوار : ج2 ، ص 187.

 ( [8]) سورة مريم ، آية 67 .

 ( [9]) شرح العرشية: ج4 ، ص37 .


أكتب تعليقاً