قراءة في فكر الشيخ الأوحد ( 2 – 2 ) … العلامة السيد محمد رضا السلمان
قراءة في فكر الشيخ الأوحد ( 2 – 2 )
العلامة السيد محمد رضا السلمان
[ خلال مؤتمر الشيخ الأوحد أعلى الله مقامه الأول ( سيرة وعطاء ) في عام 1432هـ ]
وإذا ما تجاوزنا هذه المرحلة لنحث رحالنا باحثين ومفتشين عن نورانية الهدي العرفاني والمؤصل له من خلال قراءة مدرسة أهل البيت عليهم السلام تنظيراً دقيقاً أرسى دعائمه أمير المؤمنين عليه السلام من خلال مجموعة من النصوص الطافحة بالمسح العرفاني، والتصحيح المقامي، عندما يستعرض ذلك في إحدى رسائله الحكمية في الجزء الأول صفحة 102 ، قال الفيض الكاشاني قدس سره: ( أصل المعرفة المراد فناء العبد ليس فناء ذاته ) ويقول الأوحد بيان الحال كما عودنا بنظره الثاقب وشفافية روحه المقدسة ذات اللطف الغيبي: ( إن ما قالوه ليس فناء ذاته يعني في الله، لأن ذلك يستلزم الاتحاد والاتحاد يستلزم مساواة المتحدين او مجانستهما، ولا يكون ذلك لامتناع ذلك عليه سبحانه فتقدسه عن إمكان المساواة والمجانسة ) ثم يستطرد رداً على المتصوفة الذين شذ بهم المسلك إلى هاوية حتى تخطفهم الطير وهوت بهم الريح إلى مكان سحيق، وهنا يضيف قدس سره: ( وإن كان يوهم على البعض من ادعى العرفان بأنه حق وذلك لعدم تحقق عرفانه، ومن أشعارهم فيما تأولوه قول شاعرهم:
جعلت نفسك في نفسي كما فإذا سرك شيء ســــــرني
|
|
جعل الخمرة في الماء الزلال فــإذا أنت أنا في كل حال
|
إلى نصوص عرفانية مزجت بين أعضاء المثلث العرفاني بأبعاده الثلاثة النظري والعبادي والعلمي ، حيث ذهبت روح الإمام السجاد عليه السلام تفرغ على المشهد أنهاراً من الدفق اللاهوتي الأقدس في ثوب الناسوت المقدس ، من ذلك ما جاء في صحيفته حيث إنها واحدة من أهم الذخائر لآل بيت النبوة حيث البلاغة في أعلى درجاتها ، والتربية في أصفى مواردها، والأخلاق في أزكى منابعها ، والأدب في أجلى صوره ، من أجل هذا وذاك فهي زبور آل محمد ، والأوحد العظيم يذوب عشقاً من خلال تنقله بين مفردات هذه الصحيفة المباركة ، منها ما جاء نصاً( إلهي إن كنت لا تغفر إلا لأوليائك وأهل طاعتك فإلى من يفزع المذنبون ، وإذا كنت لا تكرم إلا أهل الوفاء لك فبمن يستغيث المسيؤون ) إلى غير ذلك من محطات عروجه توقف فيها الأوحد طويلاً يتزود بزاد الكرامة ، زاد محمد وآل محمد من خلال أبواب العروج الروحي والصفاء السجادي .
من خلال هذين الرافدين يبحر بنا عارف عصره وأوحد دهره في أكثر من جهة سابغاً غور المفردات ليصنع منها عقداً طافحاً بالنورانية والصفاء حيث يطالعنا بأكثر من لون من ألوان عطائه الزاخر من خلال ما ضمنه ميراثه الواصل إلينا ، وإذا ما حط رحاله بنا في أروقة الفقاهة فنحن أمام فقيه من نوع خاص مزج بين الصناعة الدقيقة والذوق الرفيع السليم الأقرب إلى روح النص في صورة من التمازج الفني الفريد ، يتنزل من خلاله بنا إلى واقع حياة ما كان للفقه ما يبرره لولاه ، من هنا جاءت آراؤه رافعة للتكليف من خلال حجة ساطعة يوثقها الذوق ويؤكدها الدليل ، مثال ذلك: ما جاء في الكثير من رسائله التي تضمنت من الإجابات المدعمة بالأدلة القطعية من منابعها الأصيلة الواصلة إلينا عبر الطرق المعتبرة في مدرسة علم الرجال ، المنتهية إلى أصل المنبع، حيث محمد وآل محمد عليهم السلام ، حيث العلاج السندي والاستنطاق النصي الذي يدعمه ملكة ذوق خاصة ولدتها الأستذة في البلاغة بكل أغراضها .
يقول قدس سره كما في إحدى رسائله في ج7 من جوامع الكلم، وهي الرسالة الحيدرية وهي واحدة من أهم الرسائل في بابها، قال قدس سره: ( ماء البئر المشهور بين المتقدمين أنه كالقليل ينجس بالملاقاة ، وقال الشيخ لا ينجس ويجب النزح تعبداً ، وقال العلامة في بعض كتبه جعله كالراكد كما مر، وأكثر المتأخرين أنه لا ينجس إلا بالتغير وهو الأصح، نعم يستحب النزح منه لوقوع النجاسة لما ورد فيها ) وفي نص آخر يقدم لنا لوناً آخر من تتبع الآراء فدونك عبارته الأخرى .
حيث يقول: ( السابعة يستحب فيها الجماعة في خسوف القمر كما يستحب في كسوف الشمس خلافاً لأبي حنيفة ) ولو أني أردت الاستطراد لطال بنا المقام ، لذلك أرى من الجميل أن يراجع الراغب في مزيد من الإطلاع والوقوف على أبعاد مدرسته الفقهية التي بناها وفقاً لما عليه سير الاستنباط ، عند أعلام الطائفة الأصوليين ، لا يغادر ذلك قيد أنملة واحدة ، وإذا كانت المطالب العلمية قد تذهب بوقت العالم فإن شيخنا لما كان يعيش فيه من بركة الوقت وجد عنده ساحة كافية أو مساحة كافية من خلالها رسم معالم مدرسته الأدبية الرائعة والصادقة ، فهذا الأديب المجتهد في آرائه عندما يأخذ في حالة بعض ما أفاده النقل من أرباب اللغة فقهاً وبلاغة ، ولعلك تلمس ذلك واضحاً جلياً عندما تتأمل في سبكه وما يعلوه من صور البيان الدقيقة لتشكله والجميل في بنائه والراقي في سبكه، مما يساعد القارئ والباحث على الاقتراب من استنطاق نصه ، وهذا اللون من الكتابة لا يكون منقاداً عادة إلا لمن أسس بناءه الأول على قاعدة صلبة من العلوم العربية المعدة لما بعده .
ولعل الأحساء كان لها دورها البارز في هذا الجانب حيث كانت وإلى عهد قريب ترى في الفنون العربية حجر أساس للانطلاق إلى آفاق العلوم الأخرى والإنسان ابن بيئته وليس الأوحد بدعا من ذلك ، ولعلي إن أردت أن أسوق شاهداً على هذا قد أكون أجحفت في حقه ، حيث ما من نص إلا ويحمل بين طياته هذه السمة البارزة والصبغة الواضحة مروراً بكل نتاجه المبارك ، وإذا ما أردت ملامسة مدرسته الشعرية فهنا ترتسم أمام مخيلتي الكثير من النصوص أو الصور والفرضيات التي تجعلني أسير وقعها ، لما لمست فيها من تسخير واضح للهدف الكبير والقضية الكبرى دون أن أجد في ذلك شيئا من التكلف بل أمام لوحة فنية رسمتها انطباعاً روح روضتها مسيرة طويلة من المجاهدة فجاءت نابضة بالحيوية والجمال من جهة والصدق والهدفية من جهة أخرى .
وهنا أستميحكم عذراً لأسمح لنفسي أن تذهب إلى أبعد من ذلك، حيث يمكنني أن أصل إليه مع قلة البضاعة ومحدودية الرؤية، وحرجية الوقت ، مستنطقاً بعض نصوصه الأدبية التي قدمها للبشرية، أشبه ما تكون برسالة منضومة تحتاج إلى الكثير من الدرس والعناية حتى يتسنى لنا الاستفادة منها بالشكل الذي يناسب ما تحمله من مضامين عالية ، وثروة لغوية كبيرة ، من شواهد ذلك: ما يطالعنا به من خلال رائيته في سبط الرسالة بلون من ألوان الاستهلال الغزلي المشفر الذي لا يدين إلا لمن صفى خياله وارتاضت نفسه ، حيث يقول:
وغافلاً عن ضنى المحزون يعذلني هل للحزين سوى الحزن المديم شفاً وحيث أنكرت سلواتي تسائلني نحول جسمي وتكدير المعيشة واصــ ولاعج في الحشا لا ينطفي فلذا وبي شحوب تريك الصدق من حالي تنبيك أن مصابي فاقم فعسى |
|
عذلت صباً يصب المدمع الجاري وجاري الدمع عند الفادح الساري لما النكير فما استفهام انكاري فرار وجهي وتزفاري بتكراري تجري دموعي من تصعيد تزفاري تغنيك حالي عن منطوق إخباري إذا سمعت به تحنو لإعذاري |
وإذا كان للوقوف على الأطلال ما كان سبباً لتقديم البعض على الآخر من عمالقة الفن والإبداع في مدرسة الشعر فقد رسم الأوحد من خلال عينيته المطلقة لوحة عز نظيرها حيث قوة السبك وجزالة اللفظ وروعة البناء وشفافية الروح، حيث يقول:
سل الربع تبدي الحال ما كان خافيا معاهد إن تبلي الأعاصير رسمها تعاهد ربعاً بالحمى من عهادها ترسمت رسما باللوى للألى خلو على خاليات من بقايا عهودهم بحالين حالي والديار تخالها خلى ربعهم منهم فشطت بي النوى فإن تخل في عيني بأربع منهم تقلبت الأيام حتى تفرقوا قضى الله أني أصطلي نار بينهم |
|
وعن لهج في الذكر هل كان سالياً فرواده تحييه بالدمع جارياً هواطل لا تبدون إلا هواميا به من أحبائي وأهل وداديا تقلدتها فيما ترى العين باقيا وما كان قلبي منهما الدهر خاليا إلى كل واد قد تقسم باليا فلست بخال منهما في خياليا وأضحت مغانيهم لرغم خواليا وأن لست أسلوهم وأن لا تلاقيا |
ومنها يندفع إلى حيث أراد الهدفية من وراء هذا الإبداع والتفرد ليغوص في معالم مدرسة الطف .
أما في لوحته الثالثة وقد اصطفى لها البحر الطويل ، لعلمه المسبق أن لهذا البحر من الخاصية ما لا يتوفر في غيره ، لذلك لقب بملك البحور العرضية ، وعلى أساس من تموجات هذا البحر الزاخر راح ينمنم أيقونته في مسار الفكر الإنساني من خلال نظر الإنسان العارف بألوان التموج ، يقول رحمه الله في بائيته الهادرة:
بنات الليل لاعبات بلاعب لنيل المنى والدهر لا ينيله تصادف في الحاجات عبر مرادهم يقضي الفتى عمراً ولم يقض حاجة يلاطفه غدراً بتقريب حتف فكن حاذراً في وعد دهرك إنه |
|
قضى عمره الفاني بكسب المطالب ويطعمه والدهر أمكر خالد بنوه ويغنيهم بكل النوائب به ويمنيه كفعل المداعب يدب له فيها دبيب العقارب يجيء بوعد في الحقيقة كاذب |
وفي الشاهد الرابع والأخير نجده عندما يأذن لنفسه بالانفجار لوعة وأسى على مصاب سيد الشهداء ، فأنت أمام صورة من الحزن الصادق تقربه معنى مفردات البيت الواحد ، حرمان النوم وكدر العيش وعدم الاستقرار النفسي والقلب المتشظي كلها شواهد على ما كان ينحل عن إفراغ حالة الوجد الدائم ، يقول من خلال هذه البائية المجنحة التي يسافر بنا من خلالها إلى عوالم الإمام الحسين عليه السلام الناطقة بالثورة والحراك بكل قطرة دمع مقدسة:
ألا إن يوم الطف طاف بمهجتي يطالبني أن أسكب الدمع حسرة لهم ويستجلب العبرات مني منشد يقول لمن يعنيه غير مصابهم ليحرمني نومي بتكدير عيشتي هي الفجعة الكبرى على كل مؤمن فيا ابن النبي المصطفى هد حزنكم تقاسمتك البلوى فكنا بك البلا على كل لذاتي لبلواكم العفا |
|
بحزن أبا ذكري سروري مغالبي فأؤدي فيه حق مطالبي يرجع بالتزفار نظم غرائب أمن رسم دار باللوى فالذنائب فقلبي من لوعاتها غير راسب تسح دوع الحزن عين السحائب لركن حياتي إذ أشاد مصائبي يحل وحل اليوم حزن البلاء بي وها أنا ذا حتى يحل الفناء بي |
بهذا أحسب أن لوحة الأدب الناطق قد أخذت نصيباً لا بأس به تاركة المساحة الكبرى لأصحاب القلم الناقد ومقص الرقيب إذا تم له ذلك حامداً لله ومصلياً على النبي وآله الطيبين الطاهرين .
16/12/2012 في الساعة 8:34 ص
احسنتم سيدنا